قصة غي دو موباسان*
ترجمة: عزالدين بوركة **
عند الزوال، الجرس يرن معلنا عن انتهاء الحصة الدراسية. الأطفال يتدافعون خروجا بتزاحم ومشاغبة. يتراكضون نحو الباب، يتحولقون هنا ويقفزون هناك، مشهد عاد بحلقات المشاجرة والمفاخرة.. بالملابس والحاجيات، كل الجديد فقط تلميذ جديد حضر هذا الصباح. سيمون ابن لابلونشوت وجه جديد، مثير للتساؤل والصداقة بين التلاميذ.
الكل هنا سبق له أن سمع عن لابلونشوت من حديث أسرته، فهي محط ذكر الشارع والنمنمات.. ذلك أن نساء القرية أعدن لها حفل استقبال لمذاكرتها، ومساءلتها عن هذه الغيبة عن القرية بعد سنوات طويلة. نبرة الشفقة والاحتقار تفوح من كلامهن لأم سيمون لكونها أما رجعت بابن دون زوج.
سيمون يخرج من باب المدرسة رأسه إلى السماء، وعيناه تتفحصان المدرسة الجديدة غير مبال بمشاكسات الزملاء له.
قلما يخرج من البيت إلى الشارع أو الحديقة. فقط المدرسة، وهذا يومه الأول.
متجها إلى البيت تتناهى إلى مسمعه " هل تعلمون "سيمون".. أي نعم.. ليس لديه أب"..
ابن لابلونشوت يتوقف قليلا..طفل بعمر السابعة او الثامنة سنوات. شاحب الوجه قليلا، نظيف الملبس. اقترب منه زملاؤه يهمسون وينظرون إليه بعين الاستفزاز، تحولقوا عليه كالخاتم وسطهم سيمون. تقدم طفل كبير بمحفظه أكبر منه وبحاجبين معقوفين وهو نفسه صاحب الوشوشات والنميمة..
-ما هو اسمك؟.
-سيمون (قال الطفل).
- سيمون ماذا؟.
(رد الطفل)
– سيمون هو سيمون.
-هه.. لابد من اسم ثان.. سيمون وحده ليس اسما.
صرخ ابن لابلونشوت: لا.. أدعى سيمون.
بدأت الشقاوة والضحك يقفزان من عيون الأطفال " نعم .. نعم.. ليس لديه أب.
صمت يُطبق على المشهد: إنه لشيء عجيب، غير ممكن.. مستحيل.. غريب، خارج الطبيعة، من غير هذا العالم.. طفل بلا أب؟.. هذا ما سمعوه من أمهاتهم عن "لابلونشوت".. امرأة غابت عن القرية لتعود إليها ومعها طفل. سيمون يتشبث بالحائط مجهدا من نظراتهم..
لن يعود إلى البيت قبل أن يجد ما يقوله لشرح الأمر لزملائه.. بلى.. لدي أب.
الأطفال يلاحقونه.. يصرخون.. "بلا أب.. بلا أب..".. ينظر لأحدهم ويقول له:
- أنت أيضا بلا أب.
-بلى عندي واحد.
- أين هو؟
- لقد مات.. انه في المقبرة
قال الطفل اليتيم بافتخار.
" ليس لديه أب.. بلى أب.. بلى أب.
ارتمى سيمون على أحدهم وأمسكه من شعره وسدد له ما استطاع من اللكمات. بدأ الشجار.. الأطفال يجتمعون على سيمون ويعنفونه ويطرحونه أرضا.. يصرخون:
" بلا أب.. بلا أب.. بلا أب.. الآن اذهب وقلها لأبيك".
يقف من على الأرض بعدما انفضوا من حوله.. ينظف ملابسه، تبزغ في دماغه فكرة.. ""أنا بلا أب.. أنا أيضا أحتاج لأب بقربي"".. فغالبته الدموع.. الأطفال سعداء، ينظرون لدموعه -وهي تنهمر- باستهزاء.
يجمع الحصى عن الأرض ويضربهم بها فيهربون. مسح دموعه بيديه المتسختين ،واتجه هاربا نحو الحقل المجاور، شيء في رأسه يذكره بما حدث في النهر.
يتذكر أنه قبل أيام غرق رجل في النهر المجاور للحقل، انتحر لأنه لا يملك مالا.. لم يعد لديه ما يسكت به جوعه، وجوع أسرته، كان سيمون هناك بينما قام رجال القرية بإخراج الجثة. سمعهم يقولون: ""لقد مات فارتاح مند الآن"".. أنا أيضا أريد الانتحار، أريد أن أرتاح منهم، حينما يرمونني بالكلام.. أنا بدون أب مثله تماما، هو كان بدون مال فانتحر.
على مشارف النهر سماء عارية، شمس تدفئ المكان وتنعكس أشعتها على النهر فيلمع كالمرآة.. ينظر لماء النهر يجري، وبعض السمك ينط في رشاقة وزهو من ماء إلى ماء. مازالت الجملة تتردد في رأسه: أريد أن أغرق، أن انتحر فارتاح..
منظر النهر والفراشات.. يِدخل شيئاً من الغبطة إلى نفس الطفل. ينظر إلى العشب المخضر، وتستبد به رغبة التمدد عليه فيلاحق الزهور. يعدَ تشكيلاتها وألوانها، يتعب قليلا. فيستلقي على العشب الدافئ، يُحلق في الفضاء. يجعل زملاءه والناس شخوص قصة هو بطلها في مخيلته، ينتقم منهم، وهم يطلبون الصفح فلا ينالونه. يتوج نفسه أميرا على البهاء فيضحك وهو ينظر لعصفور ينط من شجرة إلى شجرة. نزق هذا العصفور. ضحكاته تعلو و تعلو و تعلو.. يلاحق العصفور في حب وزهو. يسقط على ركبتيه ويتذكر ألعاب الجندية الخاصة به.. يتذكر غرفته.. آه.. إني جائع فيشتاق لأمه وإلى المنزل..لكن.. "يا رب أريد أبا".
يد كبيرة تُربت على كتفيه.. ينظر إلى الخلف، أشعة الشمس تُخفي وجه الرجل.. ضخم البنية.. و الصوت : "ماذا تفعل هنا؟ لا تقلق يا بني".. رجل ذو لحية وشعر أسودين وسيم الملمح نظيف الملبس..ضخم.
ـــ لقد ضربوني.. لأنني.. لأني.. ليس لدي أب.
ـــ كيف ذلك؟ ولكن.. الكل لديهم آباء.
(بألم و ارتباك): أنا.. أنا.. ليس لدي أب.
ـــ أنت غريب عن القرية: آه.. أنت ابن المرأة التي حلت حديثا عن القرية.. لابلونشوت
انها امرأة جميلة.. غابت عن القرية أكثر من خمسة عشر سنة .
ــــ هيا.. هيا.. هدأ من روعك عزيزي.. لنذهب إلى أمك و سنجد لك أبا.
ممسكا بيد الطفل ابتسم الرجل.. فرحا.. فأم الطفل أجمل نساء القرية، وربما العالم.. يعرفها قبل أن تهاجر. أفكار النشوة تتسلل إليه في أمل.. قد تتذكرني، ربما..وقد.
يصلان إلى المنزل الأبيض الجميل والمتواضع.."هذا منزلي".."ماما.. ماما".. تظهر امرأة فتظهر ابتسامة الرجل وفرحه.. سرعان ما تختفي هذه الابتسامة تدريجيا عندما تتراجع لابلونشوت، وتطل من شق الباب، لكنه لمح وجهها الجميل ولو لبرهة.. المرأة تتحصن خلف الباب مظهرة وجهها.
ـــ ها هو ابنك سيدتي.. لقد وجدته ضائعا قرب النهر.
لكن سيمون قفز فوق صدر أمه قائلا:
ــــ أمي.. أمي أردت أن أغرق في النهر،لأن الأطفال نعتوني وقالوا..لقد غلبوني. طُرحت أرضا يا أمي لأنني.. قال ذاك الكبير أنني بلا أب.
ضمته إلى صدرها، وقبلته في عنف، والدموع تنهمر من عينيها. الرجل يدير رأسه عائدا إلى أشغاله.. يد صغيرة تركد إليه وتستوقفه: هل تريد أن تكون أبي؟.
صمت غريب. لابلونشوت يداها فوق قلبها. تتمسك بالحائط خوفا من أن تقع..
ـــ إن لم توافق.. سأعود لألقي نفسي في النهر.
- طبعا أريد.
-ما اسمك ادن؟ أريد معرفة اسمك.
- اسمي فيليب..قال الرجل.
فيليب... فيليب. ردد الطفل كأنه يحفظ درسا ويخشى نسيانه: : إذن "فيليب" أنت أبي.
في المدرسةأمام الباب. سيمون واقف. رأسه إلى السماء ينتظر الأطفال الأشقياء.. أطفال الأمس، ها هم يظهرون وهم يتضاحكون لرؤيته.. استقبلهم بجملة كالقنبلة:
ــــ اسمه فيليب.. أبي.
أصوات تتعالى.. الأطفال ينظرون إليه بصدمة.. فيليب ماذا؟ فيليب من؟ من هذا فيليب؟ من أين جئت به؟.. لم يخف سيمون كالأمس..
يا لكم من أغبياء أنا (سيمون فيليب).. أنْها الحصة الدراسية وتخطاهم في نشوة وانتصار.
ثلاثة أشهر مضت.. وسيمون منتشٍ بصفته الجديدة (فيليب). هذا الأخير بدوره يمر كل يوم بقرب منزل لابلونشوت لعله يظفر بابتسامة، أو حتى نظرة خاطفة.. وقليلا ما يسرق تحية حينما تفتح النافدة لدخول شمس الصباح. تحية عابرة ومقتضبة بأثر كبير على نفسية فيليب.. ابلونشوت امرأة غير عادية.. إنها تزداد جماليا يوما على آخر،. وهي شديدة الخجل لا تخالط الناس ولا تشارك النسوة في نمنماتهن، لكنها تسمح لسيمون أن يتنزه برفقة فيليب يوم الأحد يصطحبه للكنيسة
عطلة الربيع انتهت. اليوم الأول بعد العودة إلى المدرسة.ذاك الولد نفسه المعقوف الحاجبين.. ينشر بين زملائه أن فيليب ليس أب سيمون.. تعاقبه:
ـــ لقد كذبت علينا، ليس لديك أب اسمه فيليب.
-لماذا تقول هذا؟.
رد سيمون:
- لأنه لو كان لديك أب لكان زوجا لأمك.
لم يجد ما يقوله سيمون أمام هذا الكلام الغبي المنطقي.. " على كل حال هو أبي ولو لم يكن أبا كما ينبغي".
تركهم سيمون واتجه نحو الورشة التي يشتغل فيها فيليب حانيا رأسه.
ورشة فيليب تقع وسط الغابة الصغيرة، تملؤها أصوات المطارق، وضوء الأحمر الساطع من الفرن.. يصل الطفل ويدخل وسك هذا الضجيج، يجر فيليب وسط زملائه :
-قال لي الولد في المدرسة.. أنك لست أبي كما ينبغي.
-لماذا تقول هذا؟
(ببراءة)- لأنك لست زوج أمي.
(فيليب) واقف في مكانه ممسكا المطرقة بيديه الضخمتين.في دهشة يرفع رأسه..ينظر لأصدقائهالذين تمالكهم العجب من كلام الطفل، غير أنهم لم يضحكوا. ينطق أحدهم قائلا:
ــــ إنها امرأة جميلة تبدو جادة رغم حزنها وآلامها.. ستكون زوجة كريمة لرجل مثلك.
- نعم هذا صحيح تهامس آخر
ـــ ليس ذنبها أن تم خيانتها.. أليس كذالك؟.. لن تجد امرأة تستحق أن تطلب يدها كلابلونشوت.
لوهلة بدا أن كل أصدقاء الورشة اتفقوا على رأي واحد و قلما فعلوا.
ماذا فعل ليعاني ما يعانيه هذا الطفل، وما ذنب المسكينة لتربي ابنها لوحدها دون أن يحميها أحد.. حتى أنها لا تستطيع أن تذهب إلى الكنيسة لوحدها، لولا رحمة الرب ما عاشت.
صوت الضجيج يخفت مع توقف العمال عن العمل والكلام.. فيليب يخرج برفقة الصغير: اذهب وقل لأمك أنني سآتي هذه الليلة لأكلمها.
يعود للعمل. أصوات المطارق تتعالى فيليب يرجع وكأنه في حلم. إنه يوم عيد. يركض ويقفز. يصادق الريح، ويقول لها افرحي، ينظر إلى السماء وينظر إلى قامته.
السماء صافية. البدر مكتمل بوضوح. يطرق فيليب باب منزل لابلونشوت. في أناقة ببذلته الزرقاء والقميص الأبيض. يُفتح الباب. يبتسم. تقف لابلونشوت عند العتبة:
ـــ ليس جيدا أن تأتيني في هذا الوقت المتأخر سيدي.
يقف مصدوما،لا يستطيع الإجابة.
ـــ ما هذا؟ هل تريد أن يتحدث الناس عنا؟ إنني لا أتحتمل كلام الآخرين.
فيليب يتراجع خطوة إلى الخلف و يتسمر في مكانه.. فجأة ينتبه أكثر ويستجمع ريقه:
ــــ هل تريدين أن تكوني زوجة لي.
صمت ، صمت..
سيمون الذي كان نائما في غرفته، والذي نسي تعبا أن يخبر والدته شيئا.. وجد نفسه بين يدين ضخمتين وصوت أمه تهمس في أذنيه.. قبلة.
ــ ستقول لهم.. لأصدقائك..أن أباك هو (فيليب رومي) الحداد، وسيعاقب كل من يؤذيك.
* قاص وروائي فرنسي يعتبر من آباء القصة الحديثة. ولد في 5 أغسطس 1850 ورحل عن دنيانا في 6 يوليو 1893. من أبرزرواياته : حياة ما (1883)، صديق لطيف (1885)، پييرو چان (1888)، و قلوبنا (1890،ومن أبرز قصصه القصيره : "الميراث " و " العقد" و" الحلية ".