مواضيع مختارة




احتضنت قاعة "عبد الواحد خيري" بتاريخ 6 فبراير الجاري على الثالثة بعد الزوال في جامعة "بن مسيك للآداب" محاضرة تحت عنوان "هيدجر و ريبة الكينونة: بين الهدم الميتافيزيقي و الشك الفينومينولوجي".. ألقاها البروفيسور والفيلسوف النمساوي "هانس كوكلر"(يمين الصورة)..
استهل الكلام الأستاذ الدكتور "عبد العالي معزوز".. الذي اعتذر نيابة عن عميد الكلية.. وقام الدكتور "حميد لشهب" الحاصل على درجتي الدكتورة في الفلسفة الأولى في النمسا والثانية في فرنسا بتقديم البروفيسور "كوكلر" و مساره الطلابي و المهني، عبر صور من البروجيكتور و التعليق للدكتور لشهب:

تخرج "هانس كوكلر" سنة 1972 بامتياز من الجامعة سالسبورغ  بالنمسا وعاد إليها سنة 1987 ليؤسس" جمعية فينومينولوجيا النمساوية".. وأيضا يعد "كوكلر" رئيس قسم الفلسفة بجامعة إنزبروك النمساوية ورئيس المنظمة العالمية للتقدم بفيينا، وقد حصل على جوائز علمية كثيرة من جامعات ومؤسسات علمية ومنظمات دولية وجمعيات مختلفة، كانت آخرها ' الميدالية الكبرى لدافيد الأنفسيبل'، التي تسلمها يوم 11 حزيران (يونيو) 2009 من طرف البروفيسور جورج بريطاين، عضو أكاديمية العلوم الأرمينية والرئيس الحالي للجمعية العالمية للفلسفة، تقديرا لمجهوداته الفكرية والتزاماته المبدئية. و اهتم بقضايا العالم الثالث و الإسلامي.. مما جعله يلتقي مع العديد من القادة العرب من بينهم ياسر عرفات و صدام حسين خلال الفترة التي نشبت فيها الحرب بين العراق و إيران وكان تدخلا منه لإيجاد حل سلمي بين الدولتين وقد لقي هذا ترحيبا من كلا الدولتين [..].

استهل البروفيسور "كوكلر" محاضرته التي ألقاها بالألمانية (الترجمة عبر البروجكتور بالعربية) بالقول أن "إشكالية الوجود و الكينونة.. هي إشكالية إنسانية" فإن فلسفة الشخص باعتبارها فلسفة الروح.. هي في جوهرها فلسفة كينونة.. 

وتمحورت المحاضرة حول الكينونة أو الوجود في مفهومها الفينومينولوجي الهديجري* و اختلافها عن مثيلتها عند هوسرل، وهذا ما يسمى عند هيدجر "بنقطة الانعطاف"، أي انعطافه التام عن فينومينولوجيا أستاذه هوسرل.. وقد ظهر هذا حسب كوكلر عند تأليفه -أي هديجر- فكرا جديدا في كتابه "لنسيان الكينونة" حيث لا تلعب الذات المفكرة فيه أي دور في الأنطولوجيا و الفينومينولوجيا الجديدة: و قد أدخل هيدجر الزمنية لزحزحة الذاتية  كمفهوم ديكارتي. وحسب البروفيسور كوكلر أيضا فيرى أن هيدجر قد حاول أن يجعل من الكينونة/الوجود شيء محددا و متحكما فيه..


وتمحور الشق الثاني من المحاضرة التي ألقاها البروفسور هانس كوكلر حول "التقنية و إرادة القوة". فصب هذا الشق حول علاقة فينومينولوجيا هديجر بالسؤال "الليبنيتزي" (نسبة لليبنز) القائل "لماذا يوجد شيء بدل اللا شيء؟" و أيضا علاقتها مع المفهوم "النيتشي" لإرادة القوة، فيقول البروفسور هانس على لسان هيدجر "تتويج الذات هو علامة على نمو ارادة القوة في هذا العالم الحديث". و حاول هيدجر إرجاع الفكر لأصله بعدما ضاع في مفهوم الكينونة.. و لا يمكن إرجاع الفكر إلى أصله دون التخلص من الذاتية.. و غاية هذا الفكر تقويد الميتافيزيقيا. (كما جاء على لسان البروفسور)..



طرحت الأسئلة و التدخلات باللغتين العربية و الفرنسية على البروفسور كوكلر من طرف الأساتذة الحضور و الطلبة بعد تقديمه للمحاضرة بالألمانية.. وقد تدخل الدكتور "توفيق رشد" سائلا البروفسور كوكلر على مكامن الميتافيزيقيا في التقنية الحديثة/التكنولوجيا .. و أليست التقنية هي في حد ذاتها موت و قضاء على الميتافيزيقيا؟ قائلا أيضا أليست التقنية كانت الحسم في قضية الربيع العربي أو كما جاء على لسانه "لم يعد للآلهة مكان في السماء للتجسس على البشر فالأقمار الاصطناعية تقوم بذلك.. والتقنية لم تدع للقادة العرب مكان لتخبئة فسادهم..."
أما باقي التدخلات فقد أجمعت جلها على صعوبة ترجمة و فهم النص الهيدجري..


ختم الدكتور "لشهب" المحاضرة وقدم الدعوة المفتوحة لكل الحضور الشهر القادم وخاصة يوم 29 مارس، حيث سيقدم البروفسور كوكلر كتبه المترجمة للعربية في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء..


*((الظاهراتية أو الفينومينولوجيا هي مدرسة فلسفية تعتمد على الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية (أي ما تمثله هذه الظاهرة في خبرتنا الواعية) ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها.))

عزالدين بوركة: كاتب
07/02/2013



للقراءة و التحميل على شكل FLASH
 للقراءة و التحميل على شكل   PDF



متعبٌ
حجرَ صوانٍ داهمه البُكاءُ
في الشّعاب البعيدَة...
ديوانَ شعرٍ أرّقته الأكشاك
على مرمى كومة من الرؤوس المحنطة...
مبعثرٌ كحبّات رمل خانتها الشمس
عند المغيب على كرّاسة طفل حزين يومَ عاشوراء...
واجما يتدلّى البؤبؤ كي يفقأ عين الجرائد و بطاقات البنك الممغنطة..
الثلاثين سحيق لا يأتي ...
مَنْ أخبرَ النبضَ القائظ  بالظّلال الوارفة...
من أشهرَ الدّم في وجه الورود النّازفة...
من يُعلنُ قدّاحة ماكرةً في ثدي سيجارة خائفة !!!؟
متعبٌ
يتعرّى اليوم شبيها بأمسهِ
خاوٍ إلاّ من
رصيفٍ عنيد
خطوات حمقى...تسير نحو نفسها...
وبعض الخصور ـ في سياقِ مقهى مزدحم ـ
تتوسّدها نظرات أو عبرات  خاطفة !


د. عبد الرحيم أبوصفاء خريف 2012.



محسن الذهبي  -  لندن



من الاسماء  المتميزة في التشكيل العراقي المعاصر نتوقف عند تجربة الفنان (سعدي داود) المغترب بين  المملكة  المتحدة  وفرنسا  من  سنوات ، فما ان ندخل عالمه حتى نخرج ونحن نغرق في لجة من التساؤلات وموجة حب جارف لتلك المخلوقات الحلمية المنتشره على سطوح لوحاته الغارقه  بطفوليتها  المحببه ،  والمستقاه من جذر حكائي  شعبي موروث ، فهو يعتمد في ابداعه على ماهية الشكل بشكل اساسي اذ تبنى خطابا بصريا قوامه لغة جمالية مغايرة تستنبط  معالمها من اسطورية الوعي الثقافي المكون لوعيه كفنان  وانسان مبدع.  فالشكل التصويري  عنده يفهم في أطار قالب من المحلية حتى نستطيع ان نستوعب القدرة التوصيلية والتعبيرية ، فهو يجتهد في تحويل الذاكرة الجمعية التي يختزن  لتصبح اشكالا  ورموز ذات معنى انساني اوسع  مفهوما  ومقبولا  عالميا ومن مختلف الثقافات .
فهو يشتغل  بجد على عدة عوامل توثر في اسطرت هذه الاشكال المعبره عن تلك القيم الاجتماعية  والجمالية والموروث الشعبي وكلها  منابع تصب في الذاكرة الفردية للفنان والتي  هي مخزن الابداع الذي يعود اليه ليجسد ظاهرية الاشياء  بصريا وغالبا ما يكون مشحون بعاطفه ترابطية ومعان باطنية متفاعلة مع ثقافته المحلية على المستوى  القيمي .
 وبهذا المعنى تكون جزء من فلسفة ذاتية تعكس نظرته للواقع.  فالشكل البدائي  - الانساني والحيواني -  خصوصا يختزن معاني  متعددة تساهم في  بناء المعنى العام للوحة رغم انها اشكال بسيطة ولا تحمل اي تعقيد او تراكبية  لكونها  ذوات مسكونه بمعاني متوالده تستند على صياغات بصرية ذات مضمون واضح المعالم بعضها يطفح بها سطح اللوحة فيما يظل البعض الاخر رابضا في العمق مستترا يستعصي على الامساك وينتظر الكشف من عين المتلقي ووعيه .
ان  اعمال الفنان (  سعدي داود) تعتمد بشكل اساسي على   قيمة الفعل الدرامي العفوي ليصوغ المعنى الصوري ،  مما يجعلنا ندرس تجربته الواسعه  على  انها  وحدة  واحده من التطور  الدرامتيكي لفنان  يحاول  ان  يطرح همومه باعتبارها جزء من  موروث  ذاتي يعبر بشكل  او باخر  عن عن  هموم  مجموعة عاشت  وتعيش  تلك  اللحظات  التي  يسجلها  مستفزا فينا  روح الاستذكار الطفولي المغرق بالتمويهات االذاتية المترسبة في تكوين ذاكرتنا .  فهو  يؤرخ  لها بشكل ما .فهي كما نفهم صور تسجل او تؤرشف  وعي جمعي قد تتجاوز في  منظورها الفني  الوعي الفردي الملتصق بالواقع فهي تتجاوز المطابقه المفترضة بينها  وبين الواقع  لتنقلنا  الى  تكوينات  أقرب ما  تكون  لحلميات  متخيلة  عن  واقع مضى  وبقيت  في النفس  جذور  منه  ..أستغلها الفنان بمهارة المبدع  كي  تجد طريقتها في التعبير  عن  ألأنا الجمعي مستعينا بتلك الفطرية  المحببه  لقلوب  الاخرين   وهي  عالم الطفوله  .فمن  منا لم  تتكون  احلامه  من  حلم  قديم ترسخ  بالذااكرة ؟؟ التساؤل  اذن  بين تطابق الصورة التعبيرية في  خلق  ذاكرة جمعية تنتج وقائع بصرية محددة  الاشكال  تشكل بدلالاتها البصرية نموذج يداعب  خيالنا  الطفولي ..بمعنى  اخر ان الفنان يحاول جاهدا  ان  يعيد  لنا  فرح  اللحظة الطفولية بشكل  أقرب ما يكون لفطرية  السذاجة .. فالحداثة عنده لا  تعني الاغراق بالتجريد بل  بالاشتغال على  اللاوعي فهو السر ، إنه الاشتغال الواسع على (مبدأ حياة) الحياة . الملجأ الوحيد ضد الأنا ، مثلما يرى الشّاعر الألمانيّ شيللر( أنّ العبقريّة ملازمة للسّذاجة ) و ليتخطى واقعية تنقل الواقع بطريقة غير مباشرة، فيها نوع من الفنية والجمالية والإيهام بالواقعية. ففي المذهب الواقعي نهتم وندرس التكوين وعمارة المنظر وعلاقات الخطوط والشكل واللون من أجل تمثيل فكرة لها طابع متكامل   بدلا من مجرد تسجيل المظهر الخارجي للأشياء الطبيعية ، لكن الفنان هنا  يفعل  ذلك متقصدا بالمبالغة او التحوير الشكلي أحيانا لتوسيع  دائرة  الرؤيا وآفق الخيال  لعين المشاهد  .
 بينما انتقل من مفهوم الزخرفة والتزيين في اللوحه عنده من معني البناء التشكيلي والمنظور ، ليعني مفهوما أشمل باعتباره فنا مركبا يجمع بين العلامات اللغوية والبصرية  عبر اعطاء الصور المرئية  البصرية  قصد توضيح معاني النص الدرامي وتفسير مؤشراته السيميوطيقية والمرجعية. وتنصب أيضا على الخلفية التشكيلية المتوقعة في اعطاء مدلول اوسع للجزئيات الثابتة في المتن النصي للوحة فهو لا يعتني باعادة  صياغة الواقع الماضوي – الطفولي بشكل تماثلي  وحلمي  فحسب  وبشكل  توثيقي  بل هو يريد ان  يوثق الزمن  المفتقد في  فرحه انها  سيرة  لحظوية لا  يريد لها  ان  تموت  بل يوثقها كي  تبقى  حية   بمداليلها .
أن( سعدي داود ) يحاول ان يترك بصماته المميزة فنيا وجماليا على رسم الحدث، وأن يضيف إليه أشياء كثيرة من تجاربه الذاتية والموضوعية يرسم التصورات من أجل إضفاء معنى على الفضاء.  فيشكل من معطياتها، وفق رؤية موحدة، تكوينات بصرية- مشهدية تنطوي على علامات مكانية وزمانية ذات قدرة على التوليد الدلالي، أو الدال على ماوراء الدلالة الحقيقية من دلالة ثقافية إضافية إيحائية احتفالية ميثولوجية تنبني على البساطة والتنظيم والترتيب والميل إلى التشكيل التراجيدي . فهو  اذن يضع أصبعه موضع الوجع الحضاري الذي نخاف ان يهرب في غمضة عين من ذاكرتنا .
اعماله في مجملها تؤكد أن لامناص للمبدع في هذا الارث الشرقي  وان  تغرب ، من أن يكون امتداداً للمسات وتراتيل إبداعية موغلة في هذه الأرض العتيقة، وإن كانت الترتيلة القديمة تأتي هنا وكأنها تسجيلية، لكن مع التأمل، والإحساس الذي يقدمه المشهد البصري ، يؤكد أنه قدّم فنه الخاص، من خلال خطٍّ تشكيلي اتخذه لشغله البصري والبحثي معاً، وأعتقد أن قلة قد ينافسوه في ذلك..

يطرح أمام مشاهديه جمالية لوحته التشكيلية الجديدة، التي وصل من خلالها إلى غنائية الموروث الشرقي  والعراقي  بالذات  . فهو يستثمر بوعي التحويرات التعبيرية، التي تكسر حدة المدارس الفنية بحشد الحركة الإيقاعية المتصاعدة والمعبرة عن الحرية العاطفية في التعاطي مع الجوهر التكويني والتلويني..  وكما يقول ماتيس: " ان النظر هو بالفعل عملية ابداعية تتطلب مجهوداً فان  أعمال ( سعدي  داود)  تتطلب  وعي  حداثوي للنظر  اليها بشكل مغاير . فاللوحة تحفل بمجموعة من الأفكار قد تبدو واضحة ومباشرة ، لكنها تنحشر وبشكل غير مباشر بتشكيلات الخيال ، لتجد لها نظائر متحركة في فضاء المتخيل، وتصب فيه احلام الطفولة عبر قنوات عناصرها الشقاوة و اللعب و المشاكسة و الأسئلة و التمني و الأحلام. يوسع مداها بحدس المتخيل قد يصل حد السذاجة احيانا ، والتي تحرك لمشاعر فاعلة مثل الأحاسيس والمتعة والدهشة، ويقدمها كايقونات سحرية بهدف اجبار الزمن على الوقوف على رجليه من أجل ان يمشي متمهلا الى الوراء وإلى الأمام كيفما أراد . فالطفولة في اعماله رائحة وللزمان والمكان وجود وللفكرة معنى ورمز، كلها قواسم مشتركة يطرحها الفنان كرسائل مجفره توقد وتستفز الوعي الجمعي كي يغري المشاهد على إعادة التذكر دون ان يدخل في   أشكالية فوضى  الخيال والذي  نراه  اليوم  في  أغلب  اعمال الفنانيين  ممن  لا يرتكزون باعمالهم  الى  وعي  اللحظة التسجيلية الواعية فكما يقول غوته (( لاشيء افضع من  خيال بدون ذوق )) .

ان ( سعدي  داود) يتقصد ان  يقدم للعالم تجربته على انها  جزء  من تجارب  الاخرين دون اغفال  لمصدر الابداع الحقيقي  الذي هو الموروث العراقي  المتفرد .


 محسن الذهبي   لندن
muhsinaldahabi@googlemail.com




الأديبة المغربية كريمة دلياس: لم أتطلع يوماً لأن أكون كاتبة..
 وتمردي على القلم لم يدُم طويلا
حوار: أحمد لمسيح                                      

كريمة دلياس شاعرة وقاصة من  المغرب / الدار البيضاء نالت جائزة الاستحقاق لديوان "بقايا إنسان" عن جوائز ناجي نعمان الأدبية العالمية لدار الثقافة لبنان لسنة 2007 الموسم الخامس. نالت الجائزة الأولى في المهرجان الدولي الثالث للشعر والزجل بالبيضاء لسنة 2008 و2009 تصدر لها قريبا مجموعة قصصية للأطفال بعنوان "الصعود إلى القمة" وزارة الثقافة المغربية.  تعمل أستاذة رياضيات. عن مسيرة الكتابة، ومن أجل التعرف على العلاقة الحميمية بين المبدع والكتابة: دوافعها، طقوسها، اختياراتها... جرى الحوار التالي مع الشاعرة والقاصة.

س - لاعتناق الكتابة غواية سرية: قبل أن يصبح حضورك راسخا ومتميزا في حقل الكتابة هل كنت تتطلع/تفكر في أن تصبح كاتبا؟

ج ـ لم أتطلع يوما ما أن أصبح كاتبة أو شاعرة، بالعكس لم أكن أود أن أحمل القلم ولا أن أطأ أرض الكتابة، لكنني أخذت الحرف بقوة اليقين وعزم كبير، بعد أن فرض نفسه علي بقوة وإصرار. تعرف أن ما لا نكتبه بالقلم ينكتب داخلنا، فالنفس البشرية عبارة عن دهاليز من الأسرار تتشكل من تراكمات ومواقف، تبدأ من الطفولة وتمتد إلى مراحل العمر، يتفاعل معها الإنسان وتتفاعل معه في محيط مليء بالتناقضات، والآراء المتضاربة، والمصالح المتباينة من نسيج اجتماعي متباين طبقيا، وثقافيا، واقتصاديا...
كل هذه المخزونات تتبلور وتتحلل في خبايا الذات لتخرج من قمقمها عندما تتفاعل مع المحيط الخارجي، وتستجدي السؤال عن مكنون الأنا، والذات، والآخر، وسبب الوجود، وتطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية التي تطرحها بإدراك، وبغير إدراك على نفسك وعلى محيطك. قد تجد لها جوابا مقنعا، أو تجد سدا منيعا لأسئلتك ممن يحيطون بك، وعن جدوى طرحها، أو التفكير فيها. كما أن المواقف الاجتماعية التي عاينتها منذ طفولتي، والتناقضات الحياتية التي خبرتها جعلتني أبحث عن جدوى العدالة الإنسانية في ظل الاستبداد، والظلم، والطغيان، وجدوى ما نقرأه في الكتب، ونتعلمه في المدارس، ونتشدق به أمام الناس، ولا نعمل به قيد أنملة في حياتنا العامة. هذا خلق بالنسبة لي أزمة قيم حقيقية؛ لأن ما نعيشه هو جمود فكري محض، ودوران في حلقة مفرغة، سرعان ما تؤدي بك إلى نقطة البداية. كأنني أريد إعادة صياغة هذه الحياة لتجديد الذات، والوعي الإنساني بنبض جديد، ورؤى وأفكار جديدة تفسخت من عمق الأسئلة المتناسلة. لذلك هذا التمرد على القلم لم يستمر طويلا، وانقلب علي، وكان المنفذ الوحيد هو الكتابة. كنت دائما أقول مع نفسي سينضج الكلام يوما، وجاء هذا اليوم الموعود بعد سلسلة من البناء والهدم.

س- للانتماء إلى الكتابة بداية الانتساب: كيف انكتب نصك الأول؟ ومن مِن الأوائل المطلعين عليه سواء نشر أم لا؟ من حفزك على النشر؟ كيف اقتبلت نشر أول نص لك؟ وما هي ردود أفعال الغير من عائلة وأصدقاء... من نشر أول نص لك؟

ج ـ انكتب نصي الأول في وجداني عندما سكنت لغة الضاد خافقي، وقرعت أجراسي على موسيقى نبضها. حينها، علمت أنني مسكونة بجمال وسحر حروفها الفاتنة. هكذا ملكتني وأسرتني اللغة العربية، وأصبحت أحس أن لها وقعا خاصا ينسكب بانسجام في دواخلي، فاستسلمت جوانحي لوقع خطاها الجميل بدون أدنى مقاومة. لكن أول محاولة لي كانت قصيدة حسبتها عمودية باجتهاد خاص مني عندما كنت بالخامسة ثانوي، كنت متشوقة أن أجدها بين دفاتري القديمة لكنها ضاعت مني.
كانت محاولة أولى، تلتها محاولات أخرى بنفس الصيغة، وخواطر، وكتابات فكرية خاصة. كنت حينها لم أقتنع بجدوى الكتابة، وجدوى التفكير في أشياء تكبرني كما يقول لي بعض الأصدقاء والمعارف. لذلك، هذه النصوص لم تنشر، ولم تر النور قط. وكانت تطلع على قصائدي أختي التي تصغرني سنا، وتبدي إعجابها بما أكتب.
والمحك الحقيقي في عالم الكتابة جاء من معاودة الحنين لكتابة الشعر بعد قطيعة، وتمرد على القلم، وعلى الذات، والمجتمع. كتبت قصائد رومانسية، وكذلك من أحداث اجتياح العراق بحجة واهية؛ وهي تدمير أسلحة الدمار الشامل بعد سنوات من الحصار، والجوع للأطفال، والرضع، والشيوخ... حصار للحجر، والشجر، والبشر لعدة سنوات. حينها، تناسلت الأسئلة اللولبية في باطني. كيف تكون هذه المعاقبة الجماعية بهذا الاستخفاف، واللامبالاة، والعبث؟ كنت أعرف أن دمارا شاملا حل بي، وألقاني في قذارة الحضارات المصطنعة. هذا ما أفاض الكأس، لم أتقبل ولم أستوعب يوما كيف لحضارة عريقة تمتد لآلاف السنين، لبلد عريق مثل العراق أن يدمر بشكل رهيب، وعبثي من بلد ليس له حضارة تاريخية، لكن يملك كفة القوة والاستعلاء. تراكمت هذه المشاهد على مشاهد العنف، وتخوم الموت، والقتل المجاني التي كنت أشاهدها طيلة حياتي في فلسطين، والبوسنة، وغيرها من الحروب المفتعلة هنا وهناك. وكذلك مشاهد البؤس، والجوع، والمرض في مجتمعاتنا. ولم أنس هول الصدمة، وحجم الكارثة الإنسانية التي شعرت بها عندما شاهدت عبر قنوات التلفزة أمريكا تضرم النار على فائضها الاحتياطي من القمح، في حين القارة الإفريقية تعاني من مجاعة حقيقية، وإبادة جماعية بالعرض البطيء. كانت هوة سحيقة تجرفني إلى مستنقع جحيم الأسئلة، التي لم أجد بدا الهروب منه.
كنت دائما منشغلة بالهم الإنساني منذ طفولتي؛ لذلك جاء ديواني الأول "بقايا إنسان" مستغرقا في السوداوية، لكن يحمل في عمقه أملا، ويبحث عن جدوى، وكنه الحرية التي تتشدق بها الحضارات في ظل الاستبداد، والتجويع، والحصار، والقتل المجاني، والتهميش، والإقصاء...
نصوص هذا الديوان كتبتها في منتدى خليجي جاء بلا ميعاد، إلى جانب القصائد العاطفية. وقد لقيت قصائدي صدى كبيرا، وتفاعلا كبيرا بين أعضائه ورواده، فتوليت الإشراف على قسم الإبداعات الأدبية، والمسابقات بالمنتدى، بعدها شاركت بديواني الذي جمعت قصائده من المنتدى في أول مسابقة إبداعية بالنسبة لي؛ وهي مسابقة ناجي نعمان الأدبية بلبنان سنة 2007، كانت هي نقطة البداية لدخولي الساحة الثقافية؛ لأن تكويني كان علميا محضا، مما خول لي التعرف على المبدعين الفائزين بالمسابقة، وعلى أغلبية المبدعين المغاربة، والعرب، وإبداعاتهم من خلال الملتقيات الأدبية، والندوات التي كنت أحضرها على الصعيد الوطني.

س- الاختيار هوة غامضة بين العفوية والوعي: في البدايات غالبا ما تتجاذب ميولات مبهمة للعقول في الكتابة، وقد تظل كذلك أثناء الممارسة. كيف تفاعلت مع ذلك؟ وهل "احتكرك" إبداعك في حقل معين، ولماذا؟ وإذا تعددت انشغالاتك في مجال الكتابة، فأين تجد نفسك، ولماذا؟

ج ـ أومن أن التعبير الإبداعي كيفما كان هو قالب يمكن صياغته كما نريد، ونصب فيه أي شيء ليأخذ شكلا خاصا به. لذلك، أجدني أملك الأنا المتعددة في انشغالاتها، وهمومها، وميولاتها الأدبية والفنية. ولا أكتفي بإبداع معين في حد ذاته، أنا كل هذا التعدد والاختلاف في التصور والتعبير، شريطة التوفر على الجمال الإبداعي الحقيقي، والنسق الفني الراقي، والذوق الرفيع.
مثلا في صغري، كنت شغوفة بالرسم، لم أطور هذه التجربة الحقيقية الأولى لي في عالم الإبداع، لكن عندما كنت أحضر المعارض التشكيلية، أجدني أنجذب بسهولة وتلقائية تامة للوحات الفنية التي تثير في داخلي تساؤلات عميقة. أراني أتماهى مع رموزها، وإيحاءاتها الفنية، وطبيعة تمازج الألوان فيما بينها لحل شفرات اللوحة، والعثور على الفكرة التي تحمل بين خطوطها العريضة، واللامتناهية. كما أوفق إلى حد كبير في قراءة اللوحة. وستجد بعض هذه الرسومات الفنية في كتاباتي الشعرية في ديواني؛ لأن هناك تقاطعات بين الرسم، والشعر، والتشكيل. كما ستجد المسرح حاضرا من خلال الأنا المتعددة في الديوان، وهو تجسيد للذات على خشبة متحركة، تتنازع فيها الأنا الفردية، والأنا الجماعية، وأنا الآخر فيك للخروج من شرنقة الجسد الذي هو سجن حقيقي للذات. كما كان يستهويني الرسم الكاريكاتوري، لكن هناك صعوبات ومخاطر تتربص بمن يختار هذا التعبير الفني، لذلك لم أنشغل به، لكنني وظفته في القصة القصيرة جدا التي استهوتني هي أيضا، وأغوتني، وأغراني الأصدقاء لاقترافها ذات غواية. كما اخترت الكتابة في أدب الطفل، وهذا مرتبط بعالم الطفولة الذي لم أكبر عنه، ويستدرجني إلى القصص التي كنت شغوفة بها في طفولتي، والأحلام التي كنت أرسمها في مخيلتي الصغيرة. أومن أن كل إنسان يعيش بداخله طفل ما كانه، أو يود أن يكونه. وأنا أطلقت سراح هذه الطفلة الحالمة التي كنتها، لتعبر على لسان حالها عن مكنونات الطفولة الخفية وأحلامها، فانسقت إلى نسج قصص أطفال على لسان الحيوانات. أما الشعر فهو لعنتي المشتهاة، لم أختره بإرادتي بل هو من اختارني، وأغار علي من حيث لا أدري، وأحكم قبضته بخناقي. هو خبزي الأول، وملاذي الأخير، أعجن به كل هذه الغوايات لتأخذ شكلا من الأشكال، وأضعها في فرن ساخن ملائم.

س- للكتابة طقوسها، كيف تنجز نصك من لحظة المخاض إلى الولادة، فالمراجعة، وتجميل النص في جسده "النهائي"، وإرساله إلى القاريء؟ أقصد لحظة الإبداع كيف "تهجم" عليك، كيف تتم عملية الخلق؟ وكيف تكون طقوس الكتابة عندك؟

ج ـ الكتابة بالنسبة لي تختلف من الشعر إلى القصة. الشعر مخاتل، ومتطاوس، وجد متكلف. غالبا ما تتمنع علي القصيدة، لكنها تغير علي بشكل مفاجئ من حيث لا أحتسب، تراودني عن نفسها وأراودها، فنقترف معا فن الغواية. الشعر صاف لا تشوبه شوائب؛ يأتي متدفقا كماء زلال، كما سويته في خطيئته الأولى، أو كما شاء له أن يكون هنيئا للشاربين. والشعر يتطلب الإنصات للذات عميقا، ولنبض الآخر، ولصوت الأشياء التي تحفنا، وتستفزنا ببهائها، وجمالها، وحتى بقبحها. هو سفر عميق في كل شيء، وفي لا شيء. يسحبنا إلى كواكب بعيدة، ومياه عميقة، ثم يعيد تشكيلنا على الأرض.
أما القصة على العموم، فهي منقادة وطيعة، تجالسني في أي لحظة حميمية مع نفسي، وتشرب معي قهوة خفيفة بالمقهى، أجدها مصاحبة لي في الشارع، السوق، المطعم، المدرسة، البيت... باختصار، هي تلازمك كظلك الوفي في خلواتك، وصلواتك، وجولاتك. وعملية الكتابة تأتي عفوية، وتلقائية بدون اصطناع، أو زيف، أو مكياج، وإلا ستأتي مستنسخة كالنعجة دولي، أو مشوهة كأطفال سياميين.
تأتي أولا الفكرة مادة خامة بخطوطها العريضة، وبغوايتها المحرضة، تشتغل عليها في الخلفية الذهنية لتنقب عن جوهرها من خلال الروافد المعرفية، والعلمية، والمتوارث الشعبي. وتقتات أيضا من الذاكرة الحية، والخيال، ويأتي في الأخير التفاعل مع كل هذه الموارد المختلفة، والمتنوعة. وهي عملية صعبة ومعقدة تستدعي الشعور واللاشعور، لتختمر شيئا فشيئا، حتى تبني معالمها بذاتها. ويبقى لكل نوع قصصي خصوصيته الخاصة في الانجذاب، والاسترسال في عملية الحكي، والبناء حتى تكتمل القصة بقدها الممشوق، ثم تطرحه جانبا حتى تعاود قراءته في وقت لاحق كمتلق أولي؛ أي أنسحب من نصي ككاتبة لأعاود قراءته كمتلقية، وأسجل انطباعاتي الأولى، وتفاعلي مع النص. وفي بعض الأحيان، لا أكون راضية على النص تماما، أو أستشعر لبسا، أو نقصا في بعض الأفكار، أو العبارات، فأعاود تقمص روح الكاتبة، ويتكرر هذا حتى يستوي النص بكامل أناقته، وطراوته. ومن تم، يأتي دور التدقيق اللغوي. وبغض النظر عن الزمان والمكان، كل لحظة كتابة هي طقس بحد ذاتها لا تشبه لحظات أخرى مشابهة، ولا تتكرر بنفس الوتيرة والإيقاع إلا نادرا.


س- من زواج المعرفة بالموهبة يولد النص الأصيل: لكل كاتب استراتيجية ومرجعية،كيف توفقين/تلائمين بين تدفق العفوية وتلاطم الأمواج المعرفية، والصندوق/الجسد الذي يحمل/يحمي النص/الجنين إلى مرفإ الورقة حيث يتدافآن بمتخيلك؟

ج ـ المعرفة بمفهومها الواسع أساسية لكل خلق إبداعي، ولا يمكن للموهبة فقط أن تبني نصا كيفما كان. فبرأيي، المعرفة والموهبة خطان متوازيان، يتجهان في نفس الإتجاه الصحيح، في مرحلة التقارب نحو الخلق الإبداعي المتزن والمترابط، ثم تأتي بعدها مرحلة التطابق؛ وهي عملية ولادة النص الإبداعي.
موارد المعرفة مختلفة، ومتنوعة من حيث المجالات والمواضيع. في طفولتي، كنت شغوفة بالقصص البوليسية، كنت أقرأ سلسلة المغامرون الخمس بشغف، وأستبدلها عند "مول الزريعة". كما أقرأ قصص وروايات أطفال متنوعة، وأقرأ كل ما تقع عليه يدي حتى الأوراق التي تستفرغ من السلع المشتراة. وغالبا ما كنت أجد أشياء ثمينة، وتشرح النفس، فأحتفظ بها بين الكتب. كما كنت أقرا سلسلة مجلة
"الوطن العربي" القديمة والجديدة؛ وهي بالمناسبة كانت مجلة موسوعية، وذات مستوى عال من المعلومات القيمة، تجد فيها: الأدب، الشعر، السينما، المسرح، الحوارات، والعلوم بشتى أنواعها...
كما كنت أستمع للأمثال الشعبية بالإذاعة الوطنية، وأدونها، ولمختلف المواضيع التي كانت تبثها. وكنت أستمتع بمشاهدة الأفلام البوليسية خاصة، وأفلام الويسترن، والأفلام الكلاسيكية الغربية ذات البعد الإنساني على التلفاز. وفي الشعر، قرأت الشعر العربي الموزون، والشعر الحر لمختلف الشعراء. ويعجبني شعر أبي العلاء المعري، وغيره من الشعراء. لكنني في مرحلة ما، كنت درويشية حتى النخاع. أما الرواية، فكنت أقرأ الروايات الفرنسية فقط، باختيار وذوق خاص للموضوع والأسلوب. ويستهويني الأسلوب الشعري في الرواية، والمواضيع الحية التي تطرح إشكالات حقيقية من الواقع. وفي الأخير، أجدني تصالحت مع الرواية العربية.
وبقية الإجابة هي واردة في جواب السؤال السابق.

س- ليس الكاتب كاتبا فقط: غالبا ما يتعامل مع الكاتب منفصلا عن حياة البشر. وعندما "يحاسب"، يطالب بأن يكون أقرب أكثر من نبض داخل المجتمع. في هذا الإطار ما هو الوجه الآخر لكاتبنا: رياضة، صيد، موسيقى... وما علاقة ذلك بتجربتك؟

ج ـ الكاتب إنسان قبل كل شيء، يعبر عن ذاته في الآخر والآخر فيه، يتحلل في ذاته وفي الآخرين، له حساسية خاصة به يرصد من خلالها كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي يعيشها ويتعايش معها في محيطه وبيئته، ويسجلها في ذاكرته بعناية فائقة. ولا أحد برأيي له أحقية بمحاسبته، أو مطالبته بشيء أيا كان. هذا يدخل في صميم حريته الشخصية، واختياراته، واعتقاداته، وميوله التي توافق شخصيته. إنه قبل أن يكون كاتبا هو إنسان يؤثر ويتأثر... ينفعل ويتفاعل مع أسرته، ومحيطه، ومجتمعه. له همومه وانشغالاته الخاصة. ولا أحد أظن أنه اختار الكتابة بمحض الصدفة، أو جاءت الكتابة إليه من فراغ. إنها معاناة، وألم، واحتراق تنصهر فيها الذات كنوع من التمرد، والرفض المعلن لمجموعة من الأشياء؛ من أجل معانقة أحلام موؤودة. لهذا، يجب احترام اختيارات الكاتب، وأن لا نحمله ما لا يطاق.
إذا كان بد من الكشف، فوجهي الآخر يغيب حينا، ويحضر حينا آخر. بالنسبة للرياضة، كنت أعشق العدو الريفي، ومارسته في مرحلة الدراسة، وشاركت في بطولة مدرسية داخل المؤسسة. كنت الأولى في القسم، وأثير استغراب الجميع؛ وخاصة التلميذات ذات القامات الطويلة. وفي سنوات الجامعة، مارست الأيكيدو؛ كانت تجربة جميلة ومميزة. وكنت أعشق تسلق الجبال. اتجهت بعدها للخدمات الإنسانية التطوعية في الإسعافات الأولية، ثم تكونت في الفرق الإسعافية، وخضعت لتدريبات في الميدان. بعدها، خضت تجربة الخط العربي، والرسم على الزجاج والحرير، ثم في الأخير، جاءت الكتابة بكل شغبها. وأفضل هواياتي: المشي، والموسيقى، والسفر، والكتابة.


محتلة

(1)
سأغمرك بعطري
حتى تفقد حاسة الشم
فأي عطر بعدي حرام
سأغطيك بشَعري
حتى تغيب في سواده
فالألوان بعدي سواء
سأغرقك في بحر كلماتي
حتى تختلط عندك اللغات
فبدوني، أنت لا تحتاج إلى كلمات
(2)
رصيدي من العشق
منك سرقته
و بريق عيني
من عينيك خطفته
و تفصيل جسدي
بيديك صنعتُه
و الكلمات التي أتغنى بها
من شفتيك التقمتها
(3)
قبلي كان العشق عندك مدينة
تؤثثها بالنساء
و تنصب نفسك عليهن – قهرا – أمير
تتجول فيها ليلا
لتجمع الضرائب
من النهود و الشفاه
(4)
دخلت مدينتك فاتحة
خلصت أسيراتك
و حررت جواريك
قدت عليك انقلابا
و احتللت جميع قلاعك
و في لحظة ضعف
أهديتني المفتاح
(5)
عبث بمحتويات قلبك
كأي جيش احتلال
كي أمحو ماضيك دوني
و يستحيل مستقبلك – دوني – 


سيمون
قصة غي دو موباسان*                               
ترجمة: عزالدين بوركة **

عند الزوال، الجرس يرن معلنا عن انتهاء الحصة الدراسية. الأطفال يتدافعون خروجا بتزاحم ومشاغبة. يتراكضون نحو الباب، يتحولقون هنا ويقفزون هناك، مشهد عاد بحلقات المشاجرة والمفاخرة.. بالملابس والحاجيات، كل الجديد فقط تلميذ جديد حضر هذا الصباح. سيمون ابن لابلونشوت وجه جديد، مثير للتساؤل والصداقة بين التلاميذ.
الكل هنا سبق له أن سمع عن لابلونشوت من حديث أسرته، فهي محط ذكر الشارع والنمنمات.. ذلك أن نساء القرية أعدن لها حفل استقبال لمذاكرتها، ومساءلتها عن هذه الغيبة عن القرية بعد سنوات طويلة. نبرة الشفقة والاحتقار تفوح من كلامهن لأم سيمون لكونها أما رجعت بابن دون زوج.
سيمون يخرج من باب المدرسة رأسه إلى السماء، وعيناه تتفحصان المدرسة الجديدة غير مبال بمشاكسات الزملاء له.
قلما يخرج من البيت إلى الشارع أو الحديقة. فقط المدرسة، وهذا يومه الأول.
متجها إلى البيت تتناهى إلى مسمعه " هل تعلمون "سيمون".. أي نعم.. ليس لديه أب"..
ابن لابلونشوت يتوقف قليلا..طفل بعمر السابعة او الثامنة سنوات. شاحب الوجه قليلا، نظيف الملبس. اقترب منه زملاؤه يهمسون وينظرون إليه بعين الاستفزاز، تحولقوا عليه كالخاتم وسطهم سيمون. تقدم طفل كبير بمحفظه أكبر منه وبحاجبين معقوفين وهو نفسه صاحب الوشوشات والنميمة..
-ما هو اسمك؟.
-سيمون (قال الطفل).
- سيمون ماذا؟.
(رد الطفل) 
– سيمون هو سيمون.
-هه.. لابد من اسم ثان.. سيمون وحده ليس اسما.
صرخ ابن لابلونشوت: لا.. أدعى سيمون.
بدأت الشقاوة والضحك يقفزان من عيون الأطفال " نعم .. نعم.. ليس لديه أب.
صمت يُطبق على المشهد: إنه لشيء عجيب، غير ممكن.. مستحيل.. غريب، خارج الطبيعة، من غير هذا العالم.. طفل بلا أب؟.. هذا ما سمعوه من أمهاتهم عن "لابلونشوت".. امرأة غابت عن القرية لتعود إليها ومعها طفل. سيمون يتشبث بالحائط مجهدا من نظراتهم..
لن يعود إلى البيت قبل أن يجد ما يقوله لشرح الأمر لزملائه.. بلى.. لدي أب.
الأطفال يلاحقونه.. يصرخون.. "بلا أب.. بلا أب..".. ينظر لأحدهم ويقول له:
- أنت أيضا بلا أب.
-بلى عندي واحد.
- أين هو؟
- لقد مات.. انه في المقبرة
 قال الطفل اليتيم بافتخار.
" ليس لديه أب.. بلى أب.. بلى أب.
ارتمى سيمون على أحدهم وأمسكه من شعره وسدد له ما استطاع من اللكمات. بدأ الشجار.. الأطفال يجتمعون على سيمون ويعنفونه ويطرحونه أرضا.. يصرخون:
" بلا أب.. بلا أب.. بلا أب.. الآن اذهب وقلها لأبيك".
يقف من على الأرض  بعدما انفضوا من حوله.. ينظف ملابسه، تبزغ في دماغه فكرة.. ""أنا بلا أب.. أنا أيضا أحتاج لأب بقربي"".. فغالبته الدموع.. الأطفال سعداء، ينظرون لدموعه -وهي تنهمر- باستهزاء.
يجمع الحصى عن الأرض ويضربهم بها فيهربون. مسح دموعه بيديه المتسختين ،واتجه هاربا نحو الحقل المجاور، شيء في رأسه يذكره بما حدث في النهر.
يتذكر أنه قبل أيام غرق رجل في النهر المجاور للحقل، انتحر لأنه لا يملك مالا.. لم يعد لديه ما يسكت به جوعه، وجوع أسرته، كان سيمون هناك بينما قام رجال القرية بإخراج الجثة. سمعهم يقولون: ""لقد مات فارتاح مند الآن"".. أنا أيضا أريد الانتحار، أريد أن أرتاح منهم، حينما يرمونني بالكلام.. أنا بدون أب مثله تماما، هو كان بدون مال فانتحر.
على  مشارف النهر سماء عارية، شمس تدفئ المكان وتنعكس أشعتها على النهر فيلمع كالمرآة.. ينظر لماء النهر يجري، وبعض السمك ينط في رشاقة وزهو من ماء إلى ماء. مازالت الجملة تتردد في  رأسه: أريد أن أغرق، أن انتحر فارتاح..
منظر النهر والفراشات.. يِدخل شيئاً من الغبطة إلى نفس الطفل. ينظر إلى العشب المخضر، وتستبد به رغبة التمدد عليه فيلاحق الزهور. يعدَ تشكيلاتها وألوانها، يتعب قليلا. فيستلقي على العشب الدافئ، يُحلق في الفضاء. يجعل زملاءه والناس شخوص قصة هو بطلها في مخيلته، ينتقم منهم، وهم يطلبون الصفح فلا ينالونه. يتوج نفسه أميرا على البهاء فيضحك وهو ينظر لعصفور ينط من شجرة إلى شجرة. نزق هذا العصفور. ضحكاته تعلو و تعلو و تعلو.. يلاحق العصفور في حب وزهو. يسقط على ركبتيه ويتذكر ألعاب الجندية الخاصة به.. يتذكر غرفته.. آه.. إني جائع فيشتاق لأمه وإلى المنزل..لكن.. "يا رب أريد أبا".
يد كبيرة تُربت على كتفيه.. ينظر إلى الخلف، أشعة الشمس تُخفي وجه الرجل.. ضخم البنية.. و الصوت : "ماذا تفعل هنا؟ لا تقلق يا بني".. رجل ذو لحية وشعر أسودين وسيم الملمح نظيف الملبس..ضخم.
ـــ لقد ضربوني.. لأنني.. لأني.. ليس لدي أب.
ـــ كيف ذلك؟ ولكن.. الكل لديهم آباء.
(بألم و ارتباك): أنا.. أنا.. ليس لدي أب.
ـــ  أنت غريب عن القرية: آه.. أنت ابن المرأة التي حلت حديثا عن القرية.. لابلونشوت
انها امرأة جميلة.. غابت عن القرية أكثر من خمسة عشر سنة .
ــــ هيا.. هيا.. هدأ من روعك عزيزي.. لنذهب إلى أمك و سنجد لك أبا.
ممسكا بيد الطفل ابتسم الرجل.. فرحا.. فأم الطفل أجمل نساء القرية، وربما العالم.. يعرفها قبل أن تهاجر. أفكار النشوة تتسلل إليه في أمل.. قد تتذكرني، ربما..وقد.
يصلان إلى المنزل الأبيض الجميل والمتواضع.."هذا منزلي".."ماما.. ماما".. تظهر امرأة فتظهر ابتسامة الرجل وفرحه.. سرعان ما تختفي هذه الابتسامة تدريجيا عندما  تتراجع لابلونشوت، وتطل من شق الباب، لكنه لمح وجهها الجميل ولو لبرهة.. المرأة تتحصن خلف الباب مظهرة وجهها.
ـــ ها هو ابنك سيدتي.. لقد وجدته ضائعا قرب النهر.
لكن سيمون قفز فوق صدر أمه قائلا:
ــــ أمي.. أمي أردت أن أغرق في النهر،لأن الأطفال نعتوني وقالوا..لقد غلبوني. طُرحت أرضا يا أمي لأنني.. قال ذاك الكبير أنني بلا أب.
ضمته إلى صدرها، وقبلته في عنف، والدموع تنهمر من عينيها. الرجل يدير رأسه عائدا إلى أشغاله.. يد صغيرة تركد إليه وتستوقفه: هل تريد أن تكون أبي؟.
صمت غريب. لابلونشوت يداها فوق قلبها. تتمسك بالحائط خوفا من أن تقع..
ـــ إن لم توافق.. سأعود لألقي نفسي في النهر.
- طبعا أريد.
-ما اسمك ادن؟ أريد معرفة اسمك.
- اسمي فيليب..قال الرجل.
فيليب... فيليب. ردد الطفل كأنه يحفظ درسا ويخشى نسيانه: : إذن "فيليب" أنت أبي.
في المدرسةأمام الباب. سيمون  واقف. رأسه إلى السماء ينتظر الأطفال الأشقياء.. أطفال الأمس، ها هم يظهرون وهم يتضاحكون لرؤيته.. استقبلهم بجملة كالقنبلة:
ــــ اسمه فيليب.. أبي.
أصوات تتعالى.. الأطفال ينظرون إليه بصدمة.. فيليب ماذا؟ فيليب من؟ من هذا فيليب؟ من أين جئت به؟.. لم يخف سيمون كالأمس..
 يا لكم من أغبياء أنا (سيمون فيليب).. أنْها الحصة الدراسية وتخطاهم في نشوة وانتصار.
ثلاثة أشهر مضت.. وسيمون منتشٍ بصفته الجديدة (فيليب). هذا الأخير بدوره يمر كل يوم بقرب منزل لابلونشوت لعله يظفر بابتسامة، أو حتى نظرة خاطفة.. وقليلا ما يسرق تحية حينما تفتح النافدة لدخول شمس الصباح. تحية عابرة ومقتضبة بأثر كبير على نفسية فيليب.. ابلونشوت امرأة غير عادية.. إنها تزداد جماليا يوما على آخر،. وهي شديدة الخجل لا تخالط الناس ولا تشارك النسوة في نمنماتهن، لكنها تسمح لسيمون  أن يتنزه برفقة فيليب يوم الأحد  يصطحبه  للكنيسة
عطلة الربيع انتهت. اليوم الأول بعد العودة إلى المدرسة.ذاك الولد نفسه المعقوف الحاجبين.. ينشر بين زملائه  أن فيليب ليس أب سيمون.. تعاقبه:
ـــ لقد كذبت علينا، ليس لديك أب اسمه فيليب.
-لماذا تقول هذا؟.
رد سيمون:
- لأنه لو كان لديك أب لكان زوجا لأمك.
لم يجد ما يقوله سيمون أمام هذا الكلام الغبي  المنطقي.. " على كل حال هو أبي ولو لم يكن أبا كما ينبغي".
تركهم سيمون واتجه نحو الورشة التي يشتغل فيها فيليب حانيا رأسه.
ورشة فيليب تقع وسط الغابة الصغيرة، تملؤها أصوات المطارق، وضوء الأحمر الساطع من الفرن.. يصل الطفل ويدخل وسك هذا الضجيج، يجر فيليب  وسط زملائه :
-قال لي الولد في المدرسة.. أنك لست أبي كما ينبغي.
-لماذا تقول هذا؟
(ببراءة)- لأنك لست زوج أمي.
(فيليب) واقف في مكانه ممسكا المطرقة بيديه الضخمتين.في دهشة يرفع رأسه..ينظر لأصدقائهالذين تمالكهم العجب من كلام الطفل، غير أنهم لم يضحكوا. ينطق أحدهم قائلا:
ــــ إنها امرأة جميلة تبدو جادة رغم حزنها وآلامها.. ستكون زوجة كريمة لرجل مثلك. 
- نعم هذا صحيح تهامس آخر
ـــ ليس ذنبها أن تم خيانتها.. أليس كذالك؟.. لن تجد امرأة تستحق أن تطلب يدها كلابلونشوت.
لوهلة بدا أن كل أصدقاء الورشة اتفقوا على رأي واحد و قلما فعلوا.
ماذا فعل ليعاني ما يعانيه هذا الطفل، وما ذنب المسكينة لتربي ابنها لوحدها دون أن يحميها أحد.. حتى أنها لا تستطيع أن تذهب إلى الكنيسة لوحدها، لولا رحمة الرب ما عاشت.
صوت الضجيج يخفت مع توقف العمال عن العمل والكلام.. فيليب يخرج برفقة الصغير: اذهب وقل لأمك أنني سآتي هذه الليلة لأكلمها.
يعود للعمل. أصوات المطارق تتعالى فيليب يرجع وكأنه في حلم. إنه يوم عيد.  يركض ويقفز. يصادق الريح، ويقول لها افرحي، ينظر إلى السماء وينظر إلى قامته.
السماء صافية. البدر مكتمل بوضوح. يطرق فيليب باب منزل لابلونشوت. في أناقة ببذلته الزرقاء والقميص الأبيض. يُفتح الباب. يبتسم. تقف لابلونشوت  عند العتبة: 
 ـــ ليس جيدا أن تأتيني في هذا الوقت المتأخر سيدي.
يقف مصدوما،لا يستطيع الإجابة.
ـــ ما هذا؟ هل تريد أن يتحدث الناس عنا؟ إنني لا أتحتمل كلام الآخرين.
فيليب يتراجع خطوة إلى الخلف و يتسمر في مكانه.. فجأة ينتبه أكثر ويستجمع ريقه:
ــــ هل تريدين أن تكوني زوجة لي.
صمت ، صمت..
سيمون الذي كان نائما في غرفته، والذي نسي تعبا أن يخبر والدته شيئا.. وجد نفسه بين يدين ضخمتين وصوت أمه تهمس في أذنيه.. قبلة.
ــ ستقول لهم.. لأصدقائك..أن أباك هو (فيليب رومي) الحداد، وسيعاقب كل من يؤذيك.

* قاص وروائي فرنسي يعتبر من آباء القصة الحديثة. ولد في 5 أغسطس 1850 ورحل عن دنيانا في 6 يوليو 1893. من أبرزرواياته : حياة ما (1883)، صديق لطيف (1885)، پييرو چان (1888)، و قلوبنا (1890،ومن أبرز قصصه القصيره : "الميراث " و " العقد" و" الحلية ".

** قاص و كاتب من المغرب.